العيوب والآفات اللازمة الملازمة للغلو في الدين...
وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إلاّ لأن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه. منها:
العيب الأول:
أنه منفّر لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لا فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي (ص) على صاحبه الجليل "معاذ" حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي(ص) ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً.
ولهذا لما بعث النبي (ص) معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا...".
والعيب الثاني:
أنه قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحزن عليه مطيته في السير.. وأعني بهما جهده البدني والنفسي، فيسأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشديد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله.. وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله (ص): "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل".
وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي (ص) تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال (ص): "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتورا) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل".
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال (ص): "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا...".
وقال العلامة المناوي في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إلاّ عجز، فيغلب.. "فسدّدُوا" أي: الزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط.. "وقاربوا" أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا" أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل.
والعيب الثالث:
أنه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلاّ وبجانبه حق مضيع.. وقال (ص) لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله؟ فقلت بلى يا رسول الله.. قال (ص) : لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم.. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك) عليك حقاً.
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، ولا تغلُ في ناحية على حساب أخرى.
وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله (ص) آخى بينهما، فزادت بينهما الألفة، وسقطت الكلفة فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء _زوجته _ متبذلة (يعني: لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المراة المتزوجة) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل.. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن.. قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان، له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن.. فصلّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي (ص)، فذكر ذلك له، فقال النبي (ص): صدق سلمان. وفي رواية ابن سعد أنه (ص) قال: "لقد أشبع سلمان علماً...".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
تحديد مفهوم التطرف الديني، وعلى أي أساس يقوم؟
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد بعلم وبصيرة، هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.
ولا قيمة لأي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان أو علان من النّاس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: (فإن تنازعتُم في شيء فردّوه إلى الله والرّسولِ إن كُنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلا) (النساء: 59)، وقد اتفقت الأمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله (ص) يعني: الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشبابُ المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية الأشياء بغير أسمائها.
وقديماً قيل: إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة "الرفض" فضاق بهذا الاتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أنِّي رافضـي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة "الرجعية"، "الجمود"، "التطرف"، "التعصب" ونحوها، أمر في غاية الأهمية، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء.
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم "التطرف الديني" لآراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً للأهواء التي لا تتناهى (ولَوِ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لَفَسَدتِ السّموات والأرضُ ومن فيهنّ) (المؤمنون: 71).
ملاحظتان مهمتان..
وأود أن أنبه هنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا:
الملاحظة الأولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف له أثره في الحكم على الآخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات الأبرار، سيئات المقربين".
يحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله (ص) من الموبقات!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعملاً، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينيّاً!
لقد رأينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضُيّع، والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين وتدخلاً في الحرية الشخصية للآخرين!
والملاحظة الثانية:
أنه ليس من الإنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من الآراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، لأنه ليس مسؤولاً إلاّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأورع، وإن لم يكن فرضاً ولا واجباً، إذ كانت همته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم، فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه، لأنه خالف رأي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرىء في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، لا بحياة غيره.
وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إلاّ لأن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه. منها:
العيب الأول:
أنه منفّر لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لا فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي (ص) على صاحبه الجليل "معاذ" حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي(ص) ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً.
ولهذا لما بعث النبي (ص) معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا...".
والعيب الثاني:
أنه قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحزن عليه مطيته في السير.. وأعني بهما جهده البدني والنفسي، فيسأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشديد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله.. وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله (ص): "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل".
وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي (ص) تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال (ص): "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتورا) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل".
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال (ص): "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا...".
وقال العلامة المناوي في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إلاّ عجز، فيغلب.. "فسدّدُوا" أي: الزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط.. "وقاربوا" أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا" أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل.
والعيب الثالث:
أنه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلاّ وبجانبه حق مضيع.. وقال (ص) لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله؟ فقلت بلى يا رسول الله.. قال (ص) : لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم.. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك) عليك حقاً.
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، ولا تغلُ في ناحية على حساب أخرى.
وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله (ص) آخى بينهما، فزادت بينهما الألفة، وسقطت الكلفة فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء _زوجته _ متبذلة (يعني: لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المراة المتزوجة) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل.. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن.. قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان، له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن.. فصلّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي (ص)، فذكر ذلك له، فقال النبي (ص): صدق سلمان. وفي رواية ابن سعد أنه (ص) قال: "لقد أشبع سلمان علماً...".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
تحديد مفهوم التطرف الديني، وعلى أي أساس يقوم؟
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد بعلم وبصيرة، هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.
ولا قيمة لأي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان أو علان من النّاس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: (فإن تنازعتُم في شيء فردّوه إلى الله والرّسولِ إن كُنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلا) (النساء: 59)، وقد اتفقت الأمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله (ص) يعني: الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشبابُ المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية الأشياء بغير أسمائها.
وقديماً قيل: إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة "الرفض" فضاق بهذا الاتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أنِّي رافضـي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة "الرجعية"، "الجمود"، "التطرف"، "التعصب" ونحوها، أمر في غاية الأهمية، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء.
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم "التطرف الديني" لآراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً للأهواء التي لا تتناهى (ولَوِ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لَفَسَدتِ السّموات والأرضُ ومن فيهنّ) (المؤمنون: 71).
ملاحظتان مهمتان..
وأود أن أنبه هنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا:
الملاحظة الأولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف له أثره في الحكم على الآخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات الأبرار، سيئات المقربين".
يحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله (ص) من الموبقات!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعملاً، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينيّاً!
لقد رأينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضُيّع، والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين وتدخلاً في الحرية الشخصية للآخرين!
والملاحظة الثانية:
أنه ليس من الإنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من الآراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، لأنه ليس مسؤولاً إلاّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأورع، وإن لم يكن فرضاً ولا واجباً، إذ كانت همته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم، فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه، لأنه خالف رأي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرىء في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، لا بحياة غيره.